الرئيسيةمقالات وآراءمجازرُ الوعي والحصار الفكريّ / بقلم: الدكتور رائد زيدان

مجازرُ الوعي والحصار الفكريّ / بقلم: الدكتور رائد زيدان

إن المجازر التي حصلت, في أي زمانٍ ومكانْ, لهيَ أكبر برهان على وحشية الآلة العسكرية التي يتحكم بها بشر أشرار, استشرت بهم نزعة القتل والإبادة, وراق لهم رؤية الدم والأشلاء المتناثرة وبقايا الجثث بين أنقاض البيوت, تلُفها قطع قماش أخرق مخضب بدماءٍ زكية.

وكثيراً ما تُعرض مناظر الجثث المقطعةِ إرباً, والدماء الممتزجة بتراب الأرض عبر وسائل الإعلام المرئية والالكترونية, لتهز مشاعرنا ووجداننا وتحرك أحرار العالم وناشدي الحريات ورافعي رايات حقوق الإنسان. ويتجند الألوف, وتحتشد الحشود للتظاهر والشجب والاستنكار, وأخرى لجمع التبرعات ولإظهار الدعم المعنوي والمادي.

وأحياناً يسبقُ المجازرَ حصارٌ بري أو بحري أو جوي أو يتبعها, ليمنع كل دعم – أياً كان, من الوصول إلى مبتغاه, وذلك بهدف تركيع وقهر إرادة الإنسان ومعنوياته, وإذلال وطأطأة الرؤوس الشم والهامات المنتصبة.

وهنا أيضاً يتحرك أشراف العالم للذوت والدفاع ورفع الظلم والقهر والعدوان الغاشم. وتُسيَّر القوافل وتُشحن السفن ويصل ما يصل وتستمر المحاولات . . . ولكلٍ مأربه, فالصادق صادق, والسياسي المتحذلق, والمناضل المتعاطف, والمنافق المرائي, والناس أجناس ومعادن, كلُ حسب مشربه وتياره وهواه وما ترتئي نواياه.

وكلا الوضعين – مجزرة أو حصار, لا ينجح بكسر الإرادة في الحياةِ والبقاء, بل وأثبتت التجربة أن الإصرار يزداد, ولا يولِّد القمعُ إلا تمسكاً وتشبثا.

وحقيقة ما يجري من قمع وقتل وحصار, لا يمكن إخفاؤه, حيث بات لا أسرار, ولا تستّر, وكل ما هو كائن بائن. فهو مَشاع يُبث للعالم عبر الأثير, وكما للأثير من خواص بملء كل فراغ والوصول لكل مكان, كذلك الصور والأصوات, وقضايا تُعرف وجرائم تُكشف, ويُفك الحصار وترفع المعاناة, وتحيى الشعوب.

ولكن, والأخطر من هذا بأضعاف, هو المجازر الفكرية والقمع الوعيي والحصار الحضاري, الذي يُفرض على الشعوب والمجتمعات, فلا كاميرات تصور ولا مراسلين يوثقون وينقلون, لأنه لا دماء ولا أشلاء, بل بذخ وترف, وفسوق ومجون, وجهل وتخلف, فما لرأس بلا وعي, وروح بلا فكر, ونفس بلا إدراك بالعقلانية والواقعية والأيديولوجية والعقيدة الصادقة الهادفة.

فالغزو الفكري براثنه ناعمة وملامسه لطيفة تنساب انسياب العليل بين وريقات الازاهر والحشائش الخضر والخمائل.

إن الغزو الفكري لهو أخطر من غزو واستعمار الأراضي والبلدان, وتزيد خطورة مجازره عن خطورة وبشاعة المجازر ذات الدماء والأشلاء. وتكمن خطورته في سريته وهدوئه وسلاسته وسهولته وانسيابه وحلاوته وإغراءاته وشهواته وملذاته وفوائده ألآنية المؤقتة التي تفتك بعظم الأمم المستعمَرة لتقوّض بنيانها الفكري.

ولا مدرك ولا منقذ ولا مساعدات ولا تبرعات, بل سرطان تفشى ففتك.

إن مظاهر العنف والقتل والشغب, واتباع ما هو زائف تافه سطحي, وتقليد أعمى وهتاف وتصفيق لكل هبة نسيم, وحشود تخرج لمباراة كرة قدم أوروبيّة وأغنية طربيّة تسمِّر الآلاف على أصابع أرجلهم, وتسهرهم لساعات الفجر الاولى, ونوم وبطالة, وكسل وقنوع وجهالة, وطموح في إجازة, ووعي غائب, وضمير تحت تأثير المخدر, ومصلحة آنية, وغش وخداع, وعدم إخلاص وإتقان وإهمال, والدوس على ألآخر وسحق الضعفاء ذوي الحاجة . . . وفساد ورشاوى, لهي أعراض ونتائج, وأمراض بلا معالج, لغياب الوعي والفكر والأيديولوجية والمبادئ السليمة السوية, التي شُرِّعت وباتت في طي النسيان.

إن كثيراً من المجتمعات المستعمَرة فكرياً, المسحوق وعيها, المذبوح ضميرها ووجدانها, هالكةٌ لا محالة, وجلّ ما أخشاه أن يكون مصيرنا محتوماً وقدرنا محسوماً. فالأسوار المحاصِرة والأيدي القاتلة, جنية كانت أم إنسية, خفية أم علنية, سفلية أم دنيوية, يجب أن تقاوَم, بالعلم تسمو الأمم, وبالفكر تعلو الروح.

فمن يفك الحصار الفكري, فقد بات وشيكاً موته السريري, ومن يكشف ويمنع مجازر الخُلق والفضائل, ومن يحيي الأمم بعلم ورفع للهمم, فقد تهاوت أركان وركائز, حتى صار الدفن جائز, وبيتٌ لعزاءٍ يُفتح, وخاتمةٌ ومواساة, والميت. . . مجتمع بأكمله, وسُجل القتل بمحضر لمجرم مجهول الهوية, وأغلق الملف.

والصمت سيد الموقف. . . ولكنه مخجل. . . فاذهب وروِّح عن نفسك بمظاهرة, بحملة لكسر حصار, بنضال مرئي مبثوث, وتصفيق لك بالأيدي, وتلمع بعينيك أضواء الكاميرات… يا بطل, والميت لم يدفن بعد.

وبعدها . . . أدخل صومعتك وصلّي, وأطلق شعيْراتٍ في وجهك, وأوعظ ووجه, وسيّر, وقُدْ . . .  وأغرقنا معك, ورائحة الجثة تملأ الآفاق وتخنق المجتمعات الواعية حتى تبادر هي بالدفن.